الدورُ القذر

د. عبدالرحمن المختار
لا زلنا نتذكَّرُ جيِّدًا ليلةَ السادس والعشرين من مارس سنة 2015م، حين تعرّضت بلادُنا اليمن لعدوان همجي غيرِ مسبوق من جانب تحالُف دولي، في واجهته جارةُ السوء، مملكة آل سعود، التي لعبت دورًا قذرًا في التحشيد والتمويل للحرب العدوانية الإجرامية.

وكان حُكَّامُ المملكة قد اشتاطوا غضبًا من ثورة الشعب اليمني على النظام الحَاكم العميل، المرتهِن للقوى الخارجية. وتحتَ عناوين “الانتصار للشرعية”، و”إسقاط الانقلاب”، و”حماية الأمن القومي العربي”، شُنّت الحرب العدوانية بلا هوادة على شعبِ الإيمان والحكمة لما يقرُبُ من عقد من الزمان!

وحين تعرّض الأمن القومي العربي لمخاطرَ حقيقية، واستُبيحت الأرض العربية، واستُبيح الدم العربي، واستُبيحت الكرامة العربية، لم يغضب نظام آل سعود، بل لم يُصدِرْ حتى صوتًا يدل على أنه لا يزال حيًّا. وهذا في جانب ما يُفترَضُ به من موقف إيجابي في مواجهة الحالة الراهنة في قطاع غزة، أما سلبًا، فمواقف نظام آل سعود لا تُعد ولا تُحصى، ليس أدناها الخِذلان، وتحميل المقاومة الإسلامية مسؤوليةَ الجريمة والعدوان، ونعتها بالإرهاب، وتثبيط الدول العربية والإسلامية عن التحَرّك إيجابًا لنصرة أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وتوظيف وفرة المال بالتريليونات لتمويل صفقات آلة الموت والدمار الصهيوأمريكية.

ولمّا أدرك نظام آل سعود الفعلَ المؤثِّرَ لمحور المقاومة على كَيانِ الإجرام الصهيوني وشركائه، تحَرّك ليلعبَ دورًا قذرًا هدفُه الأَسَاسُ صرفُ الرأي العام عن إنجازات محور المقاومة، وتوفيرُ بدائلَ مؤقتة يتلمّس فيها الكيان الصهيوني وشركاؤه مخارجَ مجانيةً من مآزقه العسكرية والسياسية والاقتصادية. حينها أعلنت السعوديّة، ومن واشنطن بالتعاون مع فرنسا الشريك في جريمة الإبادة الجماعية، ما سُمّي بـ”التحالف الدولي لحل الدولتين”، الذي جاء عقبَ الإعلان الفرنسي الأمريكي لوقف إطلاق النار على طول حدود الأراضي المحتلّة مع لبنان.

وأثناء الترويجِ لهذَين الموقفَين الفرنسي الأمريكي المتعلّق بوقف إطلاق النار، والفرنسي السعوديّ المتعلّق بالتحالف الدولي لحل الدولتين، تفاجأ العالَمُ بجريمةِ الكيان الصهيوني التي استهدفت أمينَ عام حزب الله، السيّد حسن نصر الله – رضوان الله عليه – وعددًا من قياداتِ الحزب، تلك الجريمة التي اشتركت في التحضير لها لسنواتٍ أجهزةَ مخابرات غربية وعربية. وسبق للأمين العام الشهيد حسن نصر الله الحديثُ عن معلومات مؤكَّـدة بالتزام السعوديّة بتمويل أيةِ حرب عدوانية تؤدي إلى اغتياله!

وفي ظل أجواء تلك الجريمة، استمر نظام آل سعود وبوتيرة عالية في الترويج للتحالف الدولي لحل الدولتين، وتوّج تحَرّكه المشبوه بعقد المؤتمر الأول للتحالف في الرياض، ولم يكن له من موقف يُذكر في مواجهة جريمة الكيان الصهيوني، ليس بحق لبنان ومقاومته فحسب، بل بحق الأُمَّــة الإسلامية. وفي الوقت الذي يعربد فيه الكيان الصهيوني في جغرافية الأُمَّــة العربية والإسلامية، انشغل نظام آل سعود بالترويج المضلِّل لحَلِّ الدولتَينِ فقط؛ مِن أجلِ إيهام الشعوب العربية والإسلامية أن خَطَّ المقاومة للاحتلال الصهيوني هو خَطُّ عنف، وهو غيرُ مُجْدٍ، وأن الأفضل البحث في الحلول السلمية المتاحة لتحقيق حَـلّ الدولتين، وهو المسار التضليلي الذي اختاره نظام آل سعود!

ويومَ أمس، عقد نظامُ آل سعود في مقر الأمم المتحدة في نيويورك، بالتعاون مع فرنسا، مؤتمرًا دوليًّا مكرَّرًا للبحث في حلول سلمية للقضية الفلسطينية. ومثلما جاء المؤتمر الأول لصرف الأنظار عن إنجازات محور المقاومة بوهم “السلام وحل الدولتين”، جاء مؤتمر يوم أمس لتغطية وصرف الأنظار أَيْـضًا عن إنجازات المقاومة الإسلامية في قطاع غزة في مواجهة جيش الكيان الصهيوني، وصرف الرأي العام العربي والإسلامي عن التفاعل والتعاطف الشعبي الواسع مع مظلومية أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة في مختلف مدن العالم، والتخفيف من مشاعر السخط العالمي تجاه الكيان الصهيوني المجرم، من خلال الإيهام بمسار سلمي ضاغط تقوده السعوديّة وفرنسا، سيؤدِّي إلى حَـلِّ الدولتين.

وضمنَ أهدافِ الدور القذر الذي يلعبُه نظامُ آل سعود، التغطيةُ على الموقف المخزي لهذا النظام تجاه مظلومية أبناء الشعب الفلسطيني، تحديدًا في الوقت الراهن الذي يتعرضون فيه لإبادة جماعية، بالقتل المباشر باستخدام القنابل والصواريخ المدفوع ثمنُها من المال العربي، والقتل بالتجويع والتعطيش. فالحالة في غزة جريمة إبادة جماعية بكل ما تعنيه الإبادة من معنى، ونظام آل سعود يبحث لمحمود عباس عن ترف “حل الدولتين”! والأولى والأجدرُ أن يعمل نظام آل سعود على وقف الإبادة الجماعية أولًا، ثم يبحث في حَـلّ الدولتين، الذي لم يتحقّق منه شيء لصالح الفلسطينيين بقرار ملزم من ا

لجمعية العامة للأمم المتحدة، فكيف يمكن أن يتحقّق حَـلّ الدولتين بمبادرة سعوديّة؟

ويوم أمس، تفاخر وزير الخارجية السعوديّ الذي رأس الجلسة الافتتاحية للمؤتمر، وهو يصف علاقة نظامه بالإدارة الأمريكية بقوله: “نحن شركاء أقوياء للولايات المتحدة”، ووصف ترامب بأنه “رجل سلام، وأنه رجل محب للسلام، وأن دوره كبير في تحقيق السلام في الشرق الأوسط، وحل الأزمة في غزة”! كُـلّ ذلك رغم ارتقاء أكثر من خمسة وثمانين شهيدًا من أبناء قطاع غزة يوم أمس، بالتزامن مع افتتاح المؤتمر، ورغم تأكيد الوزير السعوديّ على قوةِ الشراكة مع إدارة ترامب، إلا أنه لم يوظّف تلك الشراكة في إنقاذ أبناء الشعب الفلسطيني مما تعرضوا له ولا يزالون يتعرضون له من إبادة جماعية!

والأبعدُ من ذلك، أن وزيرَ خارجية نظام آل سعود لم يجرؤ على وصف ما جرى ويجري في قطاع غزة بالإبادة الجماعية، واكتفى بوصف ذلك بـ”الأزمة”، وأسند إلى المجرم ترامب الدور في حلها! وذات الموقف كرّره في كلمته وزير خارجية قطر، الذي وصف ما جرى ويجري في غزة بـ”الأزمة”، وزاد على ذلك بوصف الحالة فيها بـ”الكارثة الإنسانية”، لكنه لم يُحدّد ما إذَا كانت تلك الكارثة؛ بسَببِ عواملَ طبيعية أم أن أسبابَها بشرية! وكان حديثُ الوزيرَينِ بعدَ متحدثين، على رأسهم أمين عام الأمم المتحدة، غوتيريش، الذي كرّر وصف ما جرى ويجري في قطاع غزة بالإبادة الجماعية، وانتقد التجويعَ لأبناء القطاع، مؤكّـدًا أنه ما من سببٍ يبرِّرُ ما يتعرضون له.

ولعل الوزيرَينِ السعوديّ والقطري يدركان جيِّدًا أن الإدارةَ الأمريكيةَ شريكٌ في جريمة الإبادة الجماعية، ويتجاوزُ دورُها دورَ المنفذ المباشر لأفعال الجريمة، ويدركان أَيْـضًا أنهما من موّلَ شراكةَ الإدارة الأمريكية في الجريمة. ومن ثَمَّ، فَــإنَّه ينطبقُ على نظامَيهما ما ينطبق على هذه الإدارة المجرمة من أحكام قانونية، ولإدراكهما تمامًا أن جزءًا كَبيرًا من التريليونات الممنوحة للمجرم ترامب سيذهب لتسديد ثمن القنابل والصواريخ التي يُباد بها أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.

ولكل ذلك، فقد تجنَّب الوزيران وصفَ ما يتعرض له أبناءُ الشعب الفلسطيني في قطاع غزة بأنه إبادة جماعية، واكتفيا بالوصف بأن الحالة في غزة “أزمة”، وأن المجرم ترامب معنيٌّ بحلها، وأما وصفُ الحالة بـ”الكارثة”، فلا يغيّر من الأمر شيئًا؛ باعتبَار أن صاحبَ هذا الوصف لم يحدّد المتسبِّبَ في الكارثة، وهو ما يعني إمْكَانيةَ تحميل المقاومة الإسلامية المسؤولية عنها!

ومعلومٌ أن كُـلَّ شعوب العالم تغلي؛ مِن أجلِ مظلومية أبناء الشعب الفلسطيني، باستثناء الشعوب العربية، وتحديدًا الخليجية، فالأنظمة الحاكمة أوصلت درجة حرارة كرامة هذه الشعوب إلى تحت الصفر. وتحاولُ هذه الأنظمة، بدورها القذرِ الذي تلعبُه بعنوان “التحالف الدولي لحل الدولتين”، تبريدَ حالة الغليان الشعبي لدى الشعوب الحرة، التي ما زال لديها حَــدٌّ من الكرامة والقيم الإنسانية.

وقبل عام تقريبًا، وبالتزامن مع ترويجِ نظام آل سعود للمؤتمر الدولي لحَلِّ الدولتَينِ، كتبت مقالًا بعنوان: (بديلُ التحالف الدولي لحل الدولتين)، نُشر في صحيفة المسيرة بتاريخ 2 نوفمبر 2024م، ويتمثل هذا البديل في تحالف شعبي إسلامي، هدفه مواجهة مصالح الكيان الصهيوني والقوى الاستعمارية الغربية الشريكة له في جريمة الإبادة الجماعية، ومحاصرة سفاراتها وإحراقها إن أمكن، وطرد سفرائها. فحالةُ غزة في ذلك الحين استوجبت مثلَ هذا التحالف، وحالة غزة اليوم تستوجبُه بشكل أولى. فهل ستبادر النخب في هذه الأُمَّــة لتشكيل هذا التحالف للنهوض بالواجب الذي تنصَّلت عن النهوض به أنظمتها الحاكمة؟

إن فلسطينَ اليوم، وفي كامل نطاقها الجغرافي، في القدس وغزة والضفة الغربية، بحاجة ماسّة إلى تحَرّك شعبي إسلامي داعم ومساند. فلسطين اليوم ليست في حاجة إلى الزيف والتضليل، ولا إلى الانتقاص من جهود الداعمين والمساندين، ومن فعلهم المؤثر، وقبل ذلك من الفعل المؤثر للمقاومة الإسلامية في غزة. فلسطين اليوم ليست بحاجة إلى الترويج لحل الدولتين من جانب نظام آل سعود، فهذا الحل لم ينضج منذ أكثر من سبعة عقود من الزمن، ووضع الكيان الصهيوني المجرم خلالها لا يُقارن بحال من الأحوال بما هو عليه اليوم وشركاؤه الغربيون من علوٍّ واستكبار.

ولا بديلَ عن تحالف شعبي إسلامي، مساندٍ لأبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، ومساندٍ لجهود جبهات الإسناد، ومواجِهٍ لزيف وتضليل أنظمة التطبيع والخيانة والعمالة؛ فالمعركة الراهنة معركة الأُمَّــة، وليست معركة الأنظمة. وهي معركة وعي، وما لم تعِ الأُمَّــةُ وتدرك المخاطرَ المحدقة، وتتدارك حالها، فَــإنَّ مآلَها سيكونُ كارثيًّا عليها، ولن تنفعَها عمالةُ وتبعيةُ وارتهانُ حكامها، ولن يجلِبَ لها السلامةَ والأمنَ سابقُ تفريطها وتنصُّلِها عن واجباتها، وسيسلِّطُ اللهُ عليها عدوَّها.

مقالات ذات صلة