
مجدُ اليمن يُعرِّي الممالكَ الهزيلة
بشير ربيع الصانع
في زمنٍ خرس فيه صوتُ الضميرِ العالمي، وانكفأ العالم الحر على شاشاته يلوك التصريحات المعلبة، خرج اليمن من تحت الركام، لا يطلب من أحد شهادةً ولا يستجدي عبارات ثناء، بل خطّ حضورَه بجراحه، ورفع صوته من بين رماد الحصار، يقول للكون: “غزة منا ونحن منها”؛ فكان لهذا الموقف اللافت أثرٌ جلل، دوّى صداه في الشرق والغرب، وتناقلته الصحف والمواقع والقنوات حتى غدا اسم اليمن يُتردّد على ألسنة الأحرار، وعلى المنصات الغربية قبل العربية.
هذا الحضور أربك الكياناتِ الباهتةَ، وعلى رأسها تلك المملكة التي لم تعد تملك من المجد شيئًا إلا خيالات عن مؤسّس غلفوا سيرته بعباءة الدين، بينما لم تكن حقيقته إلا سروالًا من أطماع تاهت به في دروب العهر السياسي والتطبيع المُخزي. لم تتحمل المملكةُ رؤيةَ اليمن يتصدَّرُ المشهد، لا بمالٍ ولا بإعلام، بل بموقفٍ مشرِّفٍ وسندٍ ثابتٍ لقضية الأُمَّــة. فاستشاطت غيظًا، تحَرّكت من أوكارها، وراحت تبحث في دفاتر الفتن عن وسيلةٍ تنال بها من هذا الشعب الذي لا يركع.
ولأنها عاجزةٌ، فلم تجد إلا الإعلامَ سلاحًا؛ فعمدت إلى تزييف الوثائق، وإخراج فيلمٍ وثائقيٍ تهريجي، بثّته عبر قناتها “العبرية”، حاولت فيه أن تصنع قصة عن نهاية عفاش، تُمرر من خلالها رسائل رخيصة، تعيد فيها خلط الأوراق، وتلبس الخيانة ثوب الشجاعة، والخِـذلان لباس البطولة، ظنًا منها أن اليمن لا يزال ذلك الشعب الذي يُقاد بالإشاعات والمرتزِقة.
ولكن ما لم تفهمه المملكة، أن اليمن اليوم ليس كما كان، فقد صقلته الحروب، ونحتت في وعيه التجارب، وأصبح يعرف تمامًا من باع ومن اشترى، من خان ومن صمد. يدرك أن ما فعلته تلك المملكة يومها لم يكن نصرةً لليمن، بل كانت ضربةً على ظهره، ما زالت آثارها في ذاكرة كُـلّ بيت، وكل يتيمٍ، وكل أرملةٍ، وكل عسكري أرسل إلى المحرقة ثم تُرك جثةً للخِـذلان.
هذه المملكة التي جعلت من الحفلات الصاخبة، والمواخير المضيئة، والرقص المختلط، صورةَ وجهها الجديد، تتوهم أن بإمْكَانها منافسة اليمن في مجدٍ لا يُشترى بالريال، ولا يُصنع في استوديوهات التطبيع. تنافسه في موقف؟ في رجولة؟ في تضحية؟ وهي التي لم تُبقِ من الدين إلا مظاهره، ولا من العروبة إلا شعاراتها الباهتة؟
ثم راحت تسوق نفسها كضحية لمرتزِقتها، وتبكي في تقاريرهم التي ترفع إليها من ميادين الخِـذلان، يطلبون منها ثمنًا مقابل خيانةٍ لم تعد تُثمر. تقول لهم: “خذلتكم؟”، بل أنتم من خذل أنفسكم حين علقتم آمالكم على كيانٍ كلما اشتدت عاصفة، احتمى بواشنطن، وركض إلى تل أبيب.
لم تكن هذه الحملة الأولى؛ فقد سبقتها حملات تستهدف الجنوب، وتثير النزعات المناطقية، وتحاول اللعب بورقة الطائفية في صعدة، والقبلية في مأرب، والمِلف الإنساني في الحديدة، ومزاعم الإغاثة في تعز. كُـلّ تلك المشاريع لم تكن لوجه اليمن، بل كانت سهامًا لتمزيقه، ومصائد لثرواته، ومناورةً لطمس حقيقة واحدة: أن اليمن أصبح حاضرًا في ضمير الأُمَّــة، صانعًا لحدثها، لا تابعًا له.
لكنهم لم يدركوا بعد أن الصبر على تجاوزاتهم لم يعد طويلًا، وأن هذا الشعب الذي احتمل كَثيرًا، لا يفعل ذلك ضعفًا؛ بل لأَنَّه يعرف متى يضرب، وكيف يوجع. وَإذَا جاء أوانُ الرد، فلن تنفعهم لا قناةٌ عبرية، ولا صفقةُ قرن، ولا هرولةُ تطبيع.
فالزمن ليس زمنكم، والوعي ليس في صالحكم، واليمن اليوم يمشي على صفيح الحقيقة، بينما أنتم تغرقون في مستنقع الأكاذيب.
ولو كنتم تملكون شيئًا من الشجاعة، لأدركتم أن الصمت اليمني أبلغ من خطاباتكم، وأن غزة التي ساندها اليمن بصوته ودمه، لن تنسى، ولن تسامح من باعها بثمن الظهور في مؤتمرٍ موسيقي، أَو حفلة جوائز تغني فيها مغنية العار فوق تراب المدينة المنكوبة.
سيأتي يومٌ تُعرض فيه ملفات الخيانة على الناس، وحينها ستُفتح الوثائق لا عبر قنواتكم، بل على ألسنة الشعوب، وستُكتب فيها أسماءكم، لا بوصفكم أمراء، بل كخونةٍ للتاريخ والكرامة.
وإن غدًا لناظره قريب.