
ذكرى المولد النبوي.. انبعاثُ الفطرة ونهضةُ الأمة
أصيل علي البجلي
يُطلّ علينا شهر ربيع الأول حاملًا ذكرى عظيمة تهتز لها القلوب وتخشع لها الأرواح، ذكرى ميلاد سيد الكائنات، النبي محمد صلى الله عليه وآله. إنها مناسبةٌ ليست للاحتفال فحسب، بل وقفةٌ تأمليةٌ عميقة في مسيرة النبي الخالدة التي شكّلت رسالةً للعالمين.
ميلادُه صلى الله عليه وآله لم يكن حدثًا تاريخيًّا عابرًا، بل إيذانًا بعهدٍ جديدٍ من النور والإيمان، عهدٍ يمحو ظلمات الجهل والضلال، ويؤسس لحكمٍ ودولةٍ قائمةٍ على العدل والرحمة.
إن جوهرَ الاحتفال بذكرى المولد النبوي يكمن في استحضار رسالته السماوية والعمل بمبادئها.
يقول الله تعالى في محكم كتابه: “لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخر وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا” (الأحزاب: 21).
وهذه الآية ليست دعوةً لمحبةٍ صامتة، بل أمرٌ صريح بالاقتدَاء والاتِّباع؛ فالاقتدَاء بالنبي صلى الله عليه وآله لا يقتصر على العبادات والشعائر، بل يمتد ليشمل كافة جوانب الحياة؛ من الأخلاق والمعاملات، إلى إقامة العدل ونصرة الحق.
إنها دعوةٌ لترسيخ قيم العدالة الاجتماعية والشفافية في الحكم، ورفض الفساد والاستبداد، وهي أَسَاس نهضة الأمم وسبيلها نحو الخلاص من التبعية.
وفي زمنٍ تواجه فيه الأُمَّــة تحديات جسامًا؛ من تشرذمٍ وتخلّفٍ وتآمرٍ خارجي يستهدف وجودها، تزداد الحاجة إلى العودة الصادقة لسيرة النبي صلى الله عليه وآله، فهي منبعٌ صافٍ للحلول والعبر.
من سيرته نتعلم الصبر على الشدائد، والثبات على المبادئ، ومقاومة الظلم، ونصرة المظلومين.
إنها دعوةٌ لترجمة محبتنا للنبي إلى عملٍ دؤوبٍ؛ مِن أجلِ وحدة الأُمَّــة وعزتها، وإلى مشروعٍ حضاري ينهض بها من كَبوتها، ويواجه بحزمٍ ووعيٍ محاولات التآمر على سيادتها واستقلالها.
إن إحياء ذكرى المولد النبوي الشريف يجب أن يكون حافزًا لنا لتجديد العهد مع قيمنا ومبادئنا، لنكون خير أُمَّـة أُخرجت للناس.
وقد وصف الله تعالى نبيه بقوله: “وَمَا أرسلنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ” (الأنبياء: 107).
وهذه الرحمة هي ما تحتاجه الأُمَّــة اليوم لتجاوز الصعاب وبناء مستقبلٍ مزدهر يقوم على قيم التكافل والتضامن، ويرفض كُـلّ أشكال الطغيان والاستعمار الحديث.
فالمولد النبوي ليس مُجَـرّد ذكرى، بل منهج حياة ومصدر إلهامٍ دائمٍ لكل من أراد أن يسلك طريق الحق والنور.
فلنحتفل بمولد الرسول صلى الله عليه وآله باتِّباع نهجِه، وتجديد الإيمان في قلوبنا، والعمل على إقامة العدل، ونشر المحبة، والدفاع عن قضايا الأُمَّــة المصيرية.
إنها فرصةٌ لتعزيز الوعي بمسؤوليتنا الفردية والجماعية في تحقيق رسالة النبي، وإحياء مبادئه في شتى مجالات حياتنا؛ من السياسة والاقتصاد إلى العلاقات الاجتماعية والتربوية.
نحن مدعوون اليوم لأن نكون خير خلفٍ لخير سلف، وأن نكون على قدر المسؤولية الملقاة على عاتقنا، وأن نجعل من ذكرى المولد النبوي انطلاقةً حقيقية نحو بناء مستقبلٍ يلبي تطلعات أمتنا ويحقّق لها النصر والسيادة