
تيك توك.. جبهة جديدة في الحرب الرقمية بين القوى الكبرى
تحوّل تطبيق تيك توك من منصة ترفيهية لبث المقاطع القصيرة إلى واحدة من أهم أدوات النفوذ الرقمي في العالم، بعدما باتت خوارزمياته المتطورة وآليات جمعه للبيانات تمثل سلاحًا ناعمًا في الصراع بين القوى العظمى، ولا سيّما بين الصين والولايات المتحدة.
فخلف واجهة المحتوى الخفيف والموسيقى السريعة، تدور معركة استخباراتية واقتصادية على عقول المستخدمين وبياناتهم، ضمن ما يصفه الخبراء بـ “الحرب الباردة التكنولوجية الجديدة”.
وتعتمد منصة تيك توك على منظومة ذكاء اصطناعي فائقة الدقة تُعيد تشكيل تجربة المستخدم في كل ثانية، عبر مراقبة كل حركة وسلوك داخل التطبيق، بدءًا من مدة المشاهدة، مرورًا بسرعة التمرير ونبرة الصوت، وصولًا إلى ملامح الوجه وانفعالاته.
في هذا الصدد يقول الخبير الإعلامي ماجد شعيب، لقناة “المسيرة” عبر نافذة الأمن السيبراني، إن تيك توك استطاع بفضل هذا النظام بناء ما يشبه «بصمة سلوكية» لكل مستخدم، تتيح له توجيه المحتوى بدقة شبه مطلقة، حتى قبل أن يعبّر الشخص صراحة عن اهتماماته.
ويضيف: «لم تعد المنصة ترفيهية بقدر ما أصبحت أداة تحليل نفسي جماعي، قادرة على التأثير في المزاج العام والتوجهات الاجتماعية والسياسية».
من الترفيه إلى التوجيه
تبدو خطورة هذا التوجّه في ظاهرة «فقاعات الترشيح»؛ أي حبس المستخدم ضمن دائرة ضيقة من المحتوى المتجانس الذي يعزز قناعاته ويقصي الآراء الأخرى، ما يجعل تيك توك قادرًا على إعادة تشكيل إدراك الملايين دون وعيهم بذلك.
وخلال أزمات سياسية وأمنية متلاحقة، من الحرب في أوكرانيا إلى الصراع في غزة، لوحظ كيف أصبحت المنصة أداةً لتضخيم روايات محددة وتغييب أخرى، وفق إيقاع زمني سريع يصعب على الإعلام التقليدي مجاراته.
نزاع سيادي على البيانات
أثارت هذه القدرات التقنية قلق الولايات المتحدة التي ترى في التطبيق الصيني خطرًا على أمنها القومي، فقد طالبت واشنطن مرارًا بفصل العمليات الأمريكية عن الشركة الأم “بايت دانس”، أو بيعها لمستثمرين أمريكيين، بدعوى أن بكين قد تستخدم البيانات في أغراض استخباراتية.
غير أن الخبراء يرون أن جوهر الصراع يتجاوز المخاوف الأمنية إلى مسألة السيادة الرقمية، أي من يملك خوارزميات الذكاء الاصطناعي التي تتحكم في تدفق المعلومات عالميًا.
وفي هذا السياق، يؤكد الباحث في شؤون التكنولوجيا ماجد شعيب أن «الخوارزمية هي السلاح الحقيقي، فهي ليست مجرد كود برمجي، بل نظام تحكم في وعي المستخدم واتجاهاته»، موضحًا أن نقل البيانات إلى خوادم أمريكية لا يحدّ من قدرة الصين على التأثير ما دامت تملك الخوارزمية المركزية.
فضاء عربي مكشوف
في العالم العربي، تبدو المشكلة أكثر تعقيدًا بسبب ضعف التشريعات الخاصة بحماية البيانات، وغياب البنية الرقمية المحلية القادرة على إنتاج أو استضافة منصات بديلة.
ويشير شعيب إلى أن ما يجري ليس مجرد منافسة بين شركات، بل إعادة رسم لخرائط السيطرة الثقافية والإعلامية، حيث تتحول المنصات إلى أدوات تأثير سياسي ناعم تعيد صياغة الوعي الجمعي للجمهور، لا سيّما فئة الشباب.
وتحذّر تقارير رقمية من أن استمرار هذا الانكشاف قد يجعل المجتمعات العربية عرضة لاختراقات فكرية ونفسية واقتصادية واسعة، خاصة مع تصاعد استخدام الذكاء الاصطناعي في الدعاية الخفية والتلاعب بالمعلومات.
دعوة إلى سيادة رقمية
ويرى شعيب أن أن مواجهة هذا التحدي في الأمن المعلوماتي، لا تكون بحظر التطبيقات أو فرض قيود مؤقتة، بل ببناء استراتيجية سيادة رقمية تقوم على ثلاثة محاور رئيسية تتمثل في : “تشريعات صارمة لحماية البيانات الشخصية، واستثمارات وطنية في البنى التكنولوجية المحلية، وتوعية مجتمعية وإعلامية تحصّن الأفراد ضد التلاعب بالمحتوى والخوارزميات.
ويؤكد شعيب أن «المعركة لم تعد على من يملك السلاح، بل على من يملك المعلومة وكيف يستخدمها»، داعيًا إلى تأسيس مؤسسات عربية متخصصة في تحليل البيانات وتطوير خوارزميات مستقلة.
لقد غيّر تيك توك قواعد اللعبة في فضاء الاتصال العالمي، محولًا كل هاتف ذكي إلى محطة بثّ وجمع بيانات في آن واحد. ومع تصاعد اعتماد المستخدمين العرب على المنصة كمصدر رئيسي للأخبار والترفيه، تبدو الحاجة ملحّة إلى وعي جماعي بأن الحرب المقبلة ليست على الأرض فحسب، بل على الوعي والذاكرة والمعلومة.
فمن لا يملك أدواته الرقمية، سيظل ميدانًا مفتوحًا في صراع لا تُطلق فيه الرصاصات، بل تُوجَّه فيه الخوارزميات.