
اليمن.. دماء العزة ورسالة البقاء للأُمَّـة
✍بقلم. بشير ربيع الصانع
اليمن اليوم يكتب فصلًا جديدًا بمداد من الدم والطهر، ليذكر الأُمَّــة كلها بأن العزة ثمنها غالٍ، وأن الحرية لا تُوهب، بل تُنتزع بالجهاد والتضحية.
إن للأمم محطاتٍ فارقةً في تاريخها، تُصقل فيها معادنها وتُختبر فيها ثوابتها.
وها هو اليمن شامخًا كعادته، يقف اليوم في قلب هذه المحطات لا يرتجف، بل يتوّج مواقفه بدماء زكية هي أغلى ما يملك.
بعد أسابيع قليلة من استشهاد كوكبة من رجالاته في الحكومة، لم يكد يضمد جراحه حتى جاء إعلان استشهاد قائد آخر من قادته، رئيس هيئة الأركان، اللواء محمد عبدالكريم الغماري.
إنه إعلان صريح بأن اليمن لا يزال يقدم قرابينه، طواعية واختيارا، في سبيل الله ونصرةً للمستضعفين، وفي مواجهة صريحة مع الكيان الصهيوني الغاصب.
هذه الدماء، أيها السادة، هي الوقود الحقيقي الذي يستنهض الأُمَّــة من سباتها.
إنها الحقيقة الصارخة التي لا مفر منها: لا يمكن تحقيق العدالة، ولا إقامة القسط، ولا مواجهة الظالمين المتغطرسين، من غير دفع الثمن.
هذا الثمن هو بذل الأرواح، تلك الدماء التي ترتوي بها الأرض القاحلة لتنبت حياة كريمة، حياة لا تكون العبودية فيها إلا لله وحده.
إنها ضريبة العزة والكرامة، يدفعها الأحرار بصدور عامرة بالإيمان، رافضين ذل الهوان أَو التنازل عن الحق.
لقد اعتاد هذا الشعب اليمني الأبي على البذل والعطاء والتضحية.
أصبحت التضحية بالنسبة له طبع متجذر وسِمَة دينية.
انظروا كيف تحولت الأسر اليمنية التي قدمت شهيدًا أَو أكثر، فبدل أن تخيم عليها سحب الحزن والجزع، إذَا بها تتفاخر بشهدائها وتعتز بهم.
الشهيد في البيت اليمني وسام شرف، وراية مجد ترفع عاليًا.
هذه هي ثقافة الجهاد والاستشهاد في سبيل الله، التي تحولت في اليمن إلى طباع راسخة، وإلى وسام يعتز به الصغير قبل الكبير.
لقد أدركوا بفطرتهم السليمة أن الشهادة في سبيل الله هو أسمى صور الحياة.
إن هذا الفهم العميق هو السر وراء صمودهم.
متى جاهدت الأُمَّــة في سبيل الله، وكانت على استعداد لدفع الثمن، كانت الكلفة أقل بكثير مما لو تقاعست وتخاذلت.
فالتخاذل هو الاستسلام المُميت الذي يفتح الباب على مصراعيه للأعداء لينهشوا جسد الأُمَّــة ويسلبوا خيراتها وكرامتها.
لدى الأُمَّــة الإسلامية دروس لا تحصى من الماضي والحاضر تؤكّـد أن الذل والهوان لا يُدفعان بالقعود والاستسلام، بل بالمواجهة والصبر العملي.
الأُمَّــة التي لا تحمل في وجدانها ثقافة الجهاد والاستشهاد هي لقمة سائغة لأعدائها، بل هي-بكل أسف-محل سخط الله وعقابه، لأنه جعل الجهاد ذروة سنام الإسلام، ومفتاح العزة والكرامة.
الجهاد في سبيل الله هو حياة؛ هو دفاع وقائي يدفع عن الأُمَّــة كُـلّ المخاطر المحدقة بها.
أما ثقافة الجمود والاستكانة، فهي دعوة صريحة للأعداء للطمع أكثر وأكثر.
عندما يرى العدوّ أُمَّـة متراخية، مغرقة في دنياها، يتقدم نحوها بكل وقاحة واطمئنان.
لكن عندما يرى أُمَّـة تقدّم قادتها وأبناءها شهداء، وتستقبلهم بالزغاريد والتكبير، يرتد خاسئًا، مدركًا أنه أمام سد منيع لا يُهزم.
اليمن اليوم يكتب فصلًا جديدًا بمداد من الدم والطهر، ليذكر الأُمَّــة كلها بأن العزة ثمنها غالٍ، وأن الحرية لا تُوهب، بل تُنتزع بالجهاد والتضحية.
فيا أُمَّـة الإسلام:
أتوجّـه إليكم، من هذا الموقع الشاهد على بذل الدماء الطاهرة، بوصية هي صرخة وجدان وقراءة للتاريخ والحاضر.
إن لم تعوها اليوم، فغدًا سيكتب التاريخ علينا جميعًا حكمه القاسي.
أوصيكم بثلاثة أركان هي سر البقاء والعزة:
إعادة الاعتبار لـ “الثمن”: أوقفوا وهم “السلام الرخيص” الذي يُدفع فيه الدين والعرض والأرض.
فلقد علمنا الشهداء أن العزة والعدل والقسط لا تُنال بالمفاوضات المذلّة، ولا بالاستسلام المُقنّع، بل بالجهاد والتضحية ودفع الثمن كاملًا غير منقوص.
ليكن شعاركم: “لن ننعم بالسكينة حتى نُزيل الظلم، وثمن إزالة الظلم هو بذل الأرواح”.
فوالله، إن كلفة التقاعس أشد وأبقى ألمًا من كلفة القتال.
تحرير العقول من “ثقافة الجمود”: إن عدونا لا يُهزم بقوة السلاح وحدها، بل بإيمان الأُمَّــة وثقافتها.
اخلعوا عنكم ثياب الجمود والقعود والرضا بالدون.
جاهدوا في سبيل الله أولًا لترتفع الهمم عن سفاسف الدنيا.
أعيدوا إحياء مفاهيم العزة والبذل والعطاء والتضحية والاستشهاد في مناهجكم، في بيوتكم، وفي خطاباتكم.
فالأمة التي تخاف الشهادة في سبيل الله، كتب عليها الله ذل الحياة.
لا تجعلوا أبناءكم يعتقدون أن الشهادة في سبيل الله هو انتهاء، بل هو بداية للخلود الأبدي، {وَلَا تَقُولُوا لِـمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ}.
العودة إلى “المركزية”: لا تتشتتوا بالخلافات اله
امشية والمصالح الفئوية، التي يستنزف بها العدوّ طاقتكم ويُفرّق جمعكم.
عودوا إلى مركزية قضاياكم: فلسطين، القدس، ونصرة المستضعفين في مشارق الأرض ومغاربها.
اجعلوا عدوكم الحقيقي هدفًا موحّدًا لا تحيدون عنه.
كونوا جسدًا واحدًا، يشد بعضه بعضًا.
فلو أن الأُمَّــة كلها رفعت سلاحًا أَو صوت حقّ بوجه الظلم، لاهتزت أركان الطغيان.
تذكروا أن تفرقكم قوة لأعدائكم، ووحدتكم قوة لكم.
يا أُمَّـة الإسلام، انظروا إلى اليمن.
إنه يُقدّم لكم نموذجًا حيًّا وباهرًا.
لا تنتظروا القوة الكاملة لتبدأوا، بل ابدأوا باليقين، وسيكتب الله لكم القوة.
فالحياة الحقيقية هي أن تُفنى في سبيل مبدأ يبقى، والموت الحقيقي هو أن تعيش بلا كرامة ولا مبدأ.
فانطلقوا، فوالله إن النصر موعدكم إن صدقتم.