
الوعي الذي يبدِّدُ الاغتراب الإيماني.. مقالة تحليلية حول ملزمة “محياي ومماتي”
علي أحمد شرف الدين
إنّ من يطالع هذا الدرس العظيم “محياي ومماتي” من دروس شهيد القرآن يلحظ أنّه ليس مُجَـرّد توجيهٍ وعظيّ، بل بناءٌ منهجيّ لإيمانٍ حيٍّ يربط العلم بالعمل، والنية بالحركة، والحياة بالموقف العملي في وجه الباطل.
يبدأ الدرس من السؤال المحوري: لماذا نطلب العلم؟
ويؤكّـد شهيد القرآن أن “الغايةَ المهمة التي يجب أن ينشدها الإنسان من كُـلّ عملٍ صالحٍ هي أن يحظى برضا الله سبحانه وتعالى”، فطلبُ العلم ليس غايةً بذاته، بل وسيلةٌ للهداية والعبودية، ومتى انفصل عن العمل صار علمًا عقيمًا ووِزرًا على صاحبه.
هذا الوعي الأخلاقي يجعل طالبَ العلم مسؤولًا، لا منزويًا في زوايا التأمل، بل شاهدًا في الميدان.
يقول شهيدُ القرآن: “العالم يصبح قُدوةً تلقائيًّا للآخرين ولو لمجموعةٍ من الناس الذين يعرفونه”، فالعلم سلطةٌ أخلاقية، وحاملُه مسؤولٌ عن أثره في الناس.
ولذلك فَــإنَّ السكوتَ عن الحق، أَو التهاون في العمل بما يعلم، يتحوّل إلى صورةٍ من صور التقصير الجماعي؛ إذ “يظنّ أنه ساكتٌ والناس ساكتون، فيفسّر سكوتَ الناس أنه سكوتٌ تلقائي، وهم يفسّرون سكوته أنه سكوتٌ علمي”.
ثم يأخذ الدرس منحًى عميقًا حين يربط رضوانَ الله بالعمل لا بالمعرفة وحدها، فـ”العمل هو محطُّ رضوان الله سبحانه وتعالى”، وهو الذي يحقّق للإنسان التزكية، ويقوده إلى تسليم النفس لله تعالى، وهو المعنى الجوهري لعبارة:
{قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ}.
فالعبادة – كما يبيّن شهيد القرآن – لا تقتصرُ على الصلاة والنسك، بل تمتدُّ إلى نمط الحياة، ومقاصد الموت، وكل حركةٍ في الوجود.
ومن أجملِ ما يميِّزُ خِطابَ شهيد القرآن أنّه لا يقدّم الإيمان فكرةً مُجَـرّدة، بل تجربةً حيّة.
فحين يتحدث عن “نذر الموت لله”، يحرّر المفهوم من الفهم السلبي للموت كفناء، ليقدّمه بوصفه استثمارًا ربّانيًّا لحقيقةٍ حتمية:
“من رحمة الله بعباده أنه فتح أمام الإنسان هذا الباب العظيم، هو إمْكَانية أن يستثمر موته على أعلى وأرقى درجة”.
فالموتُ هنا ليس خسارة، بل “تحويل الحتمية إلى فرصة”، والإنسان المؤمن هو الذي يحوّل موته إلى استمرار في رسالة الحياة لله.
وفي سياق التحذير الواقعي، يبيّن شهيد القرآن كيف يمكن أن تتحوّل حياةُ الإنسان – دون وعي – إلى خِدمةٍ لأعداء الله، فيقول:
“تكون أنت معلمًا ممن يجمِّد الناس ويثبِّطُهم..
أليس هذا خدمةً للأعداء؟ فتكون قد نذرت حياتَك في سبيل أمريكا”.
هكذا يربط الدرس بين المعنى الإيماني والمعنى السياسي، بين العبادة والولاء، بين النية والموقف؛ فالمسلم الحقيقي ليس من يحيا حِيادًا، بل من يختار بوضوح:
“إما أن تكون حياتك وموتك لله، أَو ستكون في سبيل الطاغوت”.
ثم ينتقل إلى الجانب التربوي فيقول:
“أن تقدّم القرآن وكأنك تُعَدُّ جُنْدًا لله”، فيربط العلم القرآني بالروح الجهادية، ويُخرج طالبَ العلم من حالة السكون إلى مقام الفعل.
ويصف حالة الأُمَّــة التي ابتعدت عن القرآن بأنها “مهزومةٌ نفسيًّا”، ويرى أن استعادة العزّة تبدأ بإعادة الثقة بالله وبسننه وبمعيّته، فـ”الله لا يأمر الناس بشيءٍ إلا وهو في متناولهم أن يعملوه”، ومن الجهل أن يُتصوّر عجز الإنسان عن نصرة دينه.
من هنا، تتحوّل العبارة “محياي ومماتي لله” إلى منهجِ حياةٍ كامل: علمٌ خالص، وعملٌ نافع، وشعورٌ دائم بالانتماء إلى الله وحدَه.
إنّها ليست جملةً إيمانيةً للترديد، بل ميثاقٌ للالتزام، وبوصلةٌ لإعادة توجيه العمر كله نحو الغاية العليا: رضوان الله.



