اليمن ونورُ الرسالة.. من الملك تُبّع إلى اليوم

بشير ربيع الصانع

منذ فجر التاريخ، كان لليمن وأهله ارتباطٌ وثيقٌ بالرسالة الإلهية؛ فقد مرّ المَلِكُ تُبّع اليماني بيثرب في رحلته، وترك فيها قبيلتَي الأوس والخزرج اليمانيتين، وأوصاهم بوصية خالدة: أن ينصروا نبيًّا يُبعَثُ في آخر الزمان، نبيًّا سيخرج الناس من الظلمات إلى النور.

كانت تلك الوصية بذرة أولى لارتباط اليمنيين بالنبي محمد -صَلَّى اللهُ عَـلَيْـهِ وَعَـلَى آلِـــهِ وَسَلَّـمَ-، ارتباط سابق حتى لميلاده، يهيّئ الأرض والقلوب لاستقبال الرسالة.

وعندما جاء وقتُ البعثة، كان اليمنُ حاضرًا في أولى لحظات النصر، فقد لبّى الأوسُ والخزرج وصية ملكهم القديم، فكانوا الأنصار الذين بايعوا النبي في العقبة، واستقبلوه في الهجرة، وآووا المهاجرين، وضحوا معه في بدر وأحد وكثير من الغزوات. لقد كان الأنصار مثالًا خالدًا على الوفاء، جسّدوا العلاقة المبكرة بين اليمن ورسول الله -صَلَّى اللهُ عَـلَيْـهِ وَعَـلَى آلِـــهِ وَسَلَّـمَ-، والقرآن الكريم يشيد بهم فيقول:

{وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أنفسهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئك هُمُ الْمُفْلِحُونَ}، إشارة واضحة إلى مكانة الأنصار الذين تبوَّؤوا الدار والإيمان، ونصرتهم للمهاجرين وحبهم لهم وإيثارهم عليهم.

وفي الوقت نفسه، توالت مواقف اليمنيين في نصرة الإسلام. فقد بعث النبي -صَلَّى اللهُ عَـلَيْـهِ وَعَـلَى آلِـــهِ وَسَلَّـمَ- رسائل ودعاة إلى اليمن، فجاء وفد اليمن مسلمًا عن قناعة وصدق، حتى قال النبي عنهم: “جاءكم أهل اليمن كأنهم السحاب، هم أرق قلوبًا وألين أفئدة”. وكان يكرّر في حقهم: “الإيمان يمان والحكمة يمانية”، دلالة على نقاء قلوبهم وعمق بصيرتهم.

منها قبيلة همدان، فلها قصة خالدة؛ إذ بعث النبي -صَلَّى اللهُ عَـلَيْـهِ وَعَـلَى آلِـــهِ وَسَلَّـمَ- الإمام عليَّ بنِ أبي طالب رضي الله عنه داعيًا لهم، فاستجابوا جميعًا وأسلموا في يوم واحد، فلما بلغ الخبر رسول الله خرّ ساجدًا شكرًا لله، وقال: “السلام على همدان، السلام على همدان”، إعلانًا لمحبته واعتزازه بهذا الموقف الفريد.

وهنا يبرز اسمُ عمار بن ياسر، الصحابي اليمني الجليل الذي كان هو وأسرته من أوائل من دخلوا الإسلام، فتعرضوا لتعذيب شديد في مكة على يد المشركين.

استشهد والده ياسر ووالدته سمية رضي الله عنهما، ليكونا أول شهداء في الإسلام، وبقي عمار ثابت القلب مؤمنًا بربه، حتى نزل فيه القرآن الكريم: {إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ}. وقد أحبه النبي -صَلَّى اللهُ عَـلَيْـهِ وَعَـلَى آلِـــهِ وَسَلَّـمَ- حبًّا خاصًّا، وقال فيه: “ويح عمار! تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار”. وهكذا ظل عمار شاهدًا على أن اليمنيين لم يكونوا فقط أنصارا في المدينة أَو جماعات وفدت من بعد، بل كانوا في الصف الأول من المؤمنين والصابرين والشهداء.

ولم يكن أويس القرني بعيدًا عن هذه السلسلة المباركة، ذلك التابعي اليمني الذي لم يلقَ النبي، لكنه ملأ قلبه بحب عظيم له، وشهد النبي بفضله فقال: “خير التابعين رجل يقال له أويس”، وضرب به المثل في الصلاح والوفاء.

كما أن رسول الله -صَلَّى اللهُ عَـلَيْـهِ وَعَـلَى آلِـــهِ وَسَلَّـمَ- كان يرفعُ يديَه داعيًا لليمن في أكثر من موقف: “اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا”، إشارة إلى مكانتهم عنده ومقامهم في الرسالة.

ومنذ ذلك التاريخ، ظل اليمنيون أوفياء لهذا العهد. في العصور التالية، حافظوا على محبة الرسول في حياتهم اليومية، فجعلوا السيرة النبوية دستورًا للأخلاق والمعاملات، وزينوا مساجدهم بالصلاة عليه وعلى آله، واحتفلوا بمولده تجديدًا للعهد وشكرًا لله على نعمة الرسول والرسالة. كانوا ينقلون محبته من جيل إلى جيل، كأنها ميراث لا يفنى، ومصدر عزيمة لا ينضب.

وفي عصرنا الحاضر، تتجلى هذه العلاقة بأبهى صورها؛ ففي ذكرى مولده الشريف، يخرج الملايين من اليمنيين إلى الساحات، تغمرهم مشاعر البهجة والسرور، يرفعون أصواتهم بالصلاة والسلام عليه وآله، ويعلنون أن النبي محمد -صَلَّى اللهُ عَـلَيْـهِ وَعَـلَى آلِـــهِ وَسَلَّـمَ- حاضر في حياتهم كلها: في العمل والسلوك والأخلاق والقيم والجهاد والتكافل الاجتماعي.

 لم يكن المولد النبوي مُجَـرّد احتفال موسمي، بل مناسبة تربط الأجيال الصغيرة بالقُدوة الحقيقية، وتوجّـه أنظار العالم إلى أن محمدًا ليس ذكرى تاريخية، بل روح حيّة تنبض في حياة الملايين.

وهكذا، تتوج رحلة ارتباط اليمنيين بالنبي محمد -صَلَّى اللهُ عَـلَيْ

ـهِ وَعَـلَى آلِـــهِ وَسَلَّـمَ- بأروع مثال للتضحية والإخلاص، حين استشهد عمار بن ياسر في معركة صفين سنة 37 هـ بجانب الإمام علي عليه السلام، وكان في المقابل أويس القرني قد سبق له أن كان مثالًا للوفاء والبر والإخلاص، مُستمرّا في دربه حتى استشهد بين يدي الإمام علي في نفس المعركة.

هذه اللحظة التاريخية توضح كيف أن اليمنيين، منذ عهد الملك تُبّع مُرورًا بالبيعة والوفود الأولى إلى المدينة، وُصُـولًا إلى الصحابة الأوائل والتابعين، ظلوا نموذجًا للوفاء والمحبة لله ورسوله، مثالًا حيًّا على أن حب النبي محمد -صَلَّى اللهُ عَـلَيْـهِ وَعَـلَى آلِـــهِ وَسَلَّـمَ- مرتبط في قلبهم وفكرهم وأفعالهم حتى آخر رمق من حياتهم.

هكذا ظل ارتباط اليمنيين بالنبي -صَلَّى اللهُ عَـلَيْـهِ وَعَـلَى آلِـــهِ وَسَلَّـمَ- ممتدًا عبر القرون: بدأ بوصية ملك، وتعزز ببيعة الأنصار، وتكرّس بأحاديث تشيد بهم، وتجلّى في مواقف كإسلام همدان ووفود القبائل وصبر آل ياسر وشهادة عمار، واستمر حتى اليوم في قلوب الملايين. إنها محبة لا تعرف الانقطاع، ورسالة لا تعرف الغياب، ويقين متجدد أن اليمنيين كانوا وسيظلون أنصار محمد وأتباعه الصادقين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

مقالات ذات صلة