مدينة الحديدة القديمة.. عبق التاريخ المهدد بالاندثار!

على ضفاف البحر الأحمر، تقف مدينة الحديدة القديمة أو ما يعرف اليوم بـ”حارة السور”، شاهدةً على ستة قرون من التاريخ والعراقة. هذه المدينة التي كانت يوماً ما مركزاً تجارياً وثقافياً يعج بالحياة، تحولت اليوم إلى مدينة منسية تتنفس بصعوبة تحت غبار الإهمال وملامح الانهيار.

المدينة القديمة في الحديدة، التي كانت محاطة بخمسة أبواب رئيسية هي: باب مشرف، باب النقل، باب الساحل، باب التحرير، وباب الحوك، لم يتبقَّ منها سوى باب مشرف الذي لا يزال صامداً رغم عوامل التعرية والزمن. أما بقية الأبواب، فقد ابتلعتها يد الإهمال، وتوارى أثرها كما توارى سكان الحارة الذين غادروها خوفاً من انهيار البيوت القديمة فوق رؤوسهم.

يقول أحد أبناء المدينة لقناة المسيرة: “هذه الحارة لم تعد كما كانت، بيوتها التاريخية آيلة للسقوط، وسكانها هربوا منها، نطالب الجهات المعنية أن تنقذ ما تبقى منها، تماماً كما تهتم بصنعاء القديمة وزبيد وجبلة.”

في قلب الحديدة القديمة، يقف المبنى التاريخي العتيق الذي كان مقراً لممثل الحكم العثماني ثم لمتصرف المدينة في العهد الإمامي.

يتميز المبنى بطرازه المعماري الفريد وزخارفه الهندسية الدقيقة ونقوشه التي تحمل خط المسند اليمني القديم، ليشكّل واجهة حضارية نادرة للحديدة.

ويستعيد المؤرخون ذكرى هذا المكان في كتابات محب الدين الخطيب، الذي أشار إلى أن المبنى كان مقراً للحاكم التركي، ثم تحوّل لاحقاً إلى مدرسة ومكتبة عشائرية بين عامي 1908 و1910، قبل أن يصبح مقراً رسمياً في عهد الإمام يحيى بن حميد الدين.

ورغم القيمة التاريخية والمعمارية التي يحملها، يقف المبنى اليوم على “قدمين مرتعشتين، كما وصفه أحد المهندسين المحليين، مهدداً بالانهيار في أي لحظة، وسط غياب شبه تام لأعمال الترميم أو الترميم الوقائي.

تحتضن المدينة القديمة أيضاً أربعة مدبات تاريخية كانت تزود سكان الحديدة بالمياه العذبة على مدى قرون، هي:

مدب المشرع

مدب الصديقية

مدب المطراق

مدب باب مشرف

هذه المنشآت الهندسية المائية تشهد على عبقرية الإنسان اليمني في إدارة الموارد المائية قديماً، لكنها اليوم تعاني من الإهمال والتخريب، حتى أن المدب الخامس في مديرية الحوك دُمر كلياً ولم يعد له أثر.

البيوت الحجرية ذات النوافذ الخشبية المزخرفة والممرات الضيقة المبلطة ما زالت تروي حكايات أجيال مضت، لكنها في المقابل تئن تحت وطأة الزمن والتجاهل.

الخبراء في التراث يؤكدون أن المدينة القديمة تمثل أحد أهم الموروثات التاريخية في تهامة واليمن عموماً، وأن فقدانها سيكون خسارة لا تعوض للذاكرة الوطنية.

ويحذر مختصون من أن استمرار الوضع الحالي سيؤدي إلى طمس معالم المدينة نهائياً خلال سنوات قليلة، ما لم تتدخل الجهات الحكومية والهيئات المختصة لإطلاق مشروع إنقاذ شامل يشمل الترميم، والتوثيق، وإعادة إحياء النشاط السياحي والثقافي في المنطقة.

المجتمع المحلي وناشطو التراث في الحديدة يطالبون اليوم الدولة والسلطات المحلية والمنظمات الدولية المعنية بالتراث الثقافي، بأن تتعامل مع الحديدة القديمة كما تعاملت مع صنعاء القديمة وزبيد وجبلة، عبر إدراجها ضمن مشاريع الصيانة والحماية المعمارية، وإنقاذ ما تبقى من معالمها قبل أن يبتلعها النسيان.

يقول أحد أبناء المدينة: “الحديدة القديمة ليست حجارة فقط، بل تاريخ، وهوية، وذاكرة مدينة بأكملها. إذا ضاعت، ضاع جزء من اليمن”.

وهكذا، تبقى الحديدة القديمة مدينةً تواجه الموت بصمت، تحرسها جدران مائلة وأبواب صامدة، بانتظار من يعيد إليها الحياة، ويحفظ عبقها الذي يتجاوز قروناً من الحضارة اليمنية الأصيلة.

مقالات ذات صلة