كربلاء: الوعي الذي لا يموت – بين فلسفة الدم وتجليات الخلود

✍️ بقلم: فيصل أحمد الهطفي

في كل عام، تعود إلينا عاشوراء لا كطقس شعائري، ولا كحدثٍ عابر من صفحات التاريخ، بل كصاعقةٍ فكرية تهزّ ضمير الأمة، وتستنهض ما بقي من وعيها المدفون تحت ركام المصالح، وغبار الصمت. إن كربلاء ليست مجرد مجزرةٍ دموية، بل هي ميزانٌ إلهيٌّ خالد يُختبر فيه صدق الإنسان، وعمق انتمائه، ومدى استعداده للتضحية من أجل الحق.

وقف الإمام الحسين بن علي عليه السلام على تراب كربلاء لا كطالبِ جاه، ولا كمنافسٍ على حكم، بل كمجسِّدٍ لمعنى الرسالة المحمدية في ذروتها الإيمانية. قالها بوضوحٍ لا لبس فيه: «إني لم أخرج أشِرًا ولا بطرًا، ولا ظالمًا ولا مفسدًا، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي محمدٍ صلى الله عليه وآله، أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر». لقد أرادها نهضةً للضمير قبل أن تكون ثورةً بالسيف، وأرادها عودةً للدين في وجه سلطةٍ اختطفته، وأرادها حياةً للقيم حين استحكمت أنياب الموت على وجه الأمة.

حين طُرح عليه ابن زياد خيارُ الذل أو القتل، أجابه بلغة الخلود: «ومثلي لا يبايع مثله». ولم يكن هذا الرفض نزوةَ كرامةٍ شخصية، بل كان بيانًا فلسفيًا لمفهوم القيادة في الإسلام، وتحديدًا لطبيعة العلاقة بين السلطة والحق، بين المنصب والقيم، بين السيف والشرعية. قال عليه السلام مخاطبًا الأمة التي صمتت: «ألا ترون أن الحق لا يُعمل به، وأن الباطل لا يُتناهى عنه؟ فليرغب المؤمن في لقاء ربه. فإني لا أرى الموت إلا سعادة، والحياة مع الظالمين إلا شقاءً وبرمًا». هكذا تتجلى منهجية الإمام الحسين عليه السلام: أن لا مساومة مع الباطل، وأن مصارع الكرام أحبُّ من طاعة اللئام، وأن الموقف أغلى من البقاء، وأن الدم حين يكون لله، يكتب التاريخ.

لقد كان الإمام الحسين عليه السلام، بتلك الوقفة الإيمانية، يُفعّل وصية جده المصطفى صلى الله عليه وآله التي قال فيها: «أيها الناس، إنه من رأى سلطانًا جائرًا، مستحلًّا لحرم الله، ناكثًا لعهد الله، مخالفًا لسنة رسول الله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يُغيِّر عليه بفعلٍ ولا قول، كان حقًا على الله أن يدخله مدخله». وهكذا تحوَّل موقف الحسين من موقفٍ شخصي إلى معيارٍ أزلي، تُقاس عليه ضمائر الشعوب، وتوزن عليه مواقف العلماء، ويُمحَّص به صدق الثوار، وصفاء السائرين إلى الله.

لكن المأساة لا تكمن في يزيد وحده، بل في أولئك الذين صمتوا، وتخلّفوا، ورضوا، وشاركوا بصمتهم في جريمة العصر. إن الحسين لم يُقتل بسيف يزيد فحسب، بل بخذلان الكوفة، وبيع الذمم، وجبن العلماء، وسكوت الأمة. كربلاء ليست فقط دمًا أُريق، بل وعيًا أُجهض، ومسؤوليةً ضُيِّعت، وعهدًا نُكِث. لقد تحوَّلت الأمة إلى شاهد زور، وذُبح ابن بنت نبيها، وهي لاهية، خائفة، باحثة عن نجاةٍ فردية تحت مظلة الطغيان.

واليوم، لا تزال كربلاء قائمة. نراها في غزة، تحت ركام البيوت، في صراخ الأطفال، في الأشلاء المتناثرة، في الحصار الظالم، في الخيانة العلنية. نراها في اليمن، حيث رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه، فحملوا سيف الحسين، وصدحوا بصوته، وواجهوا الطغاة وهم في عزلةٍ، حصارٍ خانق، فكانوا كأصحاب الحسين في الطف: قلةُ عدد، عِظمُ إيمان، رسوخُ موقف. نراها في كل كلمة حقٍّ تُقال في وجه سلطانٍ جائر، وفي كل يدٍ تمتدُّ لقطع سلاسل التطبيع، وفي كل شعوبٍ ترفض الذل رغم الجوع والخذلان.

لكننا أيضًا نرى يزيد يتكرّر في وجوه أخرى، بربطات عنقٍ هذه المرة، بمنصاتٍ إعلامية، بقراراتٍ دولية، بسياساتٍ تُشرِّع القتل وتُدين الضحية. نرى شمرًا، وابن زياد، وحرملة، وقد لبسوا ثيابًا حديثة، وتحركوا بغطاءٍ دولي، وتمظهروا بلغة حقوق الإنسان الزائفة. إن الطغاة تغيّروا في الشكل، لكنهم ما زالوا ذات الوحوش الجائعة إلى دماء الحق.

كربلاء لا تزال تكتب التاريخ. لا تزال تفرز الصفوف. لا تزال تهتف في وجدان كل إنسان: اختر موقعك. فإما أن تكون مع الحسين، أو تكون – بصمتك – مع القتلة. لا وسط، لا رمادية، لا حياد. لأن الحسين ليس ذكرى، بل معيار. الحسين ليس مأتمًا، بل مشروع. الحسين ليس دمعة، بل سيفٌ وصرخةٌ وموقف. وإن أعظم خيانة للحسين، أن يُحصر في عاشوراء، أو يُسجن في المجالس، أو يُفرَّغ من مضمونه الثوري الإيماني.

كربلاء لا تموت، لأن الدم أطهر من الحبر، والموقف أصدق من الخطاب، والحق أبقى من الطغاة. لقد انتصر الإمام الحسين عليه السلام، لا حين بقي جسده، بل حين بُتر جسده، وبقيت كلمته. وانتصر دمه، لأن دمًا لله لا يُهزم. وانتصر موقفه، لأنه خرج من أجل الله، وفي سبيل الله، فكان خالصًا لله، لا يشوبه رياء، ولا تحكمه مصلحة.

مقالات ذات صلة